يأخذ موضوع الزيّ أو اللبَاس أو السِتر حيزاً كبيراً من خطاباتنا، الثقافية والاجتماعية وبطبيعة الحال، الدينية. وفي مجتمع أبوي ذكري يعتمد البكارية والرجولية والفحولة كمداخل قراءة للعالم، كالمجتمعات العربية عموماً والمجتمع المصري على وجه الخصوص، يُضفي الذكرُ بعداً عَلاقاتياً بين التحرش وأنماط الزيّ، بحيث تنحصر القضية في طرفين هما الزيّ والتحرش، باعتبار نوعية الأول أو نمطه سبب مباشر للثاني أو علّة. يُكذِّبُ هذا التضييق أو تلك العلَاقة، ويخلع عنها كل شرعية، أمران؛ أولاً: حكم الواقع الذي يقول إنّ التحرّش لا يرتبط بزيّ معين، فهو يطال المرأة التي برقعت وجهها وتلك التي كشفت عن ساقيها، كما أنه لا يرتبط بطبقة محددة أو بنوع مخصوص أو بسن معروفة. ثانياً: وفي حال قمنا بتضييق أفقنا - من باب: "وإن سلّمنا" كما يعبر المتكلمة والأصوليون في تراثنا التليد! - فإنَّ الواقع المعاش، في دول ومجتمعات مجاورة، يخبرنا ببطلان العَلاقة المذكورة، وبوجود تشكيلة عَلاقاتية أخرى. من ثم فتفكيك الارتباط بين الزيّ والتحرّش هو البداية لأي نقاش ذي جدوى ومسؤولية في قضية التحرّش.
ولكن هذا الفض لا يعني عدم معالجة المنطق الذي يتحرك من خلاله هذا التبرير؛ فصفات الحُرّة والأمة والعبد لم تنتظم، في التراث الإسلامي، ضمن إطار ما صرنا نطلق عليه أحكام الأسرة أو الأحوال الشخصية فحسب، بل تداخلت مع مسارات اجتماعية وثقافية واقتصادية؛ فتلازَم العُري والتكشُّف والتجرّد من الثياب مع العبودية Slavery والدنيوية والدونيّة والدَنَس (راجع الرواية القرآنية لقصة آدم في سورة البقرة وسورة طه، وقارن بين حُكم الأحرار وحُكم العبيد في المسائل الجزئية بداخل المدوّنات الفقهية وخصوصاً مسائل الزيّ)، بينما تلازَم الستار والحجاب والغطاء مع الحُريّة والطهارة والأخروية (لاحظ الآية: "إن لكَ ألّا تجوعَ فيها ولا تعرى" [طه:118]، والآية: "[...] وإذا سألتموهنَّ مَتاعا فاسألوهنَّ من وراءِ حِجَاب ذلكُم أطهرُ لقلُوبِكُم وقلوبهن" [الأحزاب:53]). ونتيجة لذلك، إذا قلنا: حرة = مستورة، وأَمَة = مكشوفة، أو: بما أنكِ مستورة فأنتِ حُرَّة، وبما أنكِ مكشوفة فأنتِ أَمَة. فبماذا نخرج من قولنا هذا؟
رغم انقضاء عصور العبودية وسياسات الاسترقاق الكلاسيكية، بقيت هذه الارتباطات في العلن وفوق الجلد لا تحته، وعمل على تأكيدها حراس الإيمان والقيم والمعنى، إذ وفقاً لهؤلاء المرأة – إذا أرادت أن تكون حُرَّة - هي جوهرة ينبغي أن تُحفظ في البيت أو تحت البرقع والحجاب والعَباءة، وهي ليست محض جوهرة أو معدن نفيس (وبالتالي فإسباغ القيمة هاهنا ليس في ذات المرأة/ الجوهرة، ولكن في نظرة صاحب القيمة/المعنى عليها)، لكن أيضاً تسكنها الفتنة والوساوس (وهذا تصور توراتي تم استبطانه عند تأويل النص القرآني). أما إذا أرادت أن تتصرف كأَمَة/ جارية/ مملوكة وتتكشَّف وتتعرّى فسوف تتم معاملتها كما تُعامل الإِماء. هذا ما نخرج به ونصل إليه عند تشريح المنطق الذي يشتغل في عقول دعاة التسويغ والتبرير.
فالرجُل - هنا – يمتلك حق تعريف الحُرَّة والأَمَة، ويُقنن تمثلات الحرية والعبودية، وهي كلها فروع تنتج عن أصل واحد هو الذات. والذّات - هنا - هي الرجل وذكورته وقضيبه (والقضيب يمثل الظهور والبروز والعلن) الذي يضعه في مكان الحرث (المستتر/ الداخل). الرجُل هو من يُعرِّف الذات ويحصر دلالاتها فيه ويخلع ممكناتها عليه. ولا بأس في سَحب دلالة الذات على آخرين، كالمرأة والطفل والمثليّ، لكنّ ذلك يبقى ضمن سُلطة المنح وكسباً من الرجل إلى غيره. فالمرأة، مثلاً، ذات، لكنها ذات ناقصة، وطالما هناك تطابق بين ذات الرجل وكونه رجلاً أو ورجولته، فهي "رجل ناقص" خُلق من ضلع الرجل الكامل. ولأنه يعرِّفُ الذات فهو، بطبيعة الحال، يمتلك حق تعريف ما هو أدنى؛ ففي اللغة، وهنا ننقل عن عبد الله الغَذَّامي، يصير "خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً" كما يعبّر عبد الحميد الكاتب، فاللفظ، الذي هو التجسيد العملي (الظاهر/ الخارج من ظهور القضيب) للغة، من حيازة الذكر، بينما للمرأة المعنى (المستتر/ الداخل من اللغة)، الموجّه بواسطة اللفظ، ويصير التذكير أصلاً؛ فـ"تذكير المؤنث واسع جداً لأنه رد إلى الأصل"، وفقا لابن جني. (يُنظَر: الغَذَّامي/عبد الله محمد، المرأة واللغة (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، 1997). و"اللغَةُ أخطَرُ النّعَم" (هايدغر).
وأيضا هو من يعرِّفُ الجسد، وجسد المرأة - في أحد مستويات الجدولة - مرتبط بثنائية الحُرَّة والأَمَة؛ والعُري والتكشف وإظهار الثديين بدون مشد والخصر من غير غطاء وحرية التنقل في أوساط الرجال...، سمات ترتبط بالأَمة والجارية والمحظية. الذكر - هنا – يؤطر المرأة وجسدها ولباسها، لأنه يطابق بين نفسه وبين الذات العارفة، ويرى جسد المرأة كموضوع مُهندَس ذكورياً، سواء تعلق الأمر بالزي أم بالحركة.
وتمتد هذه الذات الرجولية في قلب كل شئ، في الأخضر واليابس، حتّى في الخطاب النِّسوي السائد في واقعنا العربي؛ فإذا أرادت المرأة أن تتحرر عليها أن تعتمد أولاً وأخيراً المقياسية الرجولية، الرجل كمقياس، ليست المساواة الإنسانية غير الذكرية، ولكن المساواة بالإضافة للرجل. و"الأُنثى الراغبة في أن تؤسس حقها في المساواة لا على أساس التمايز، بل على أساس التماثل. فأن تكون عديلة الرجل، معناه عندها أن تكون مثيلته. لكن أنثى تريد أن تكون مثل الرجل هي أنثى تنكر سلفاً حقها في أن تنتمي إلى نفسها وفي أن تكون ما هي كائنة عليه. وإذا أنكر الكائن حقه في أن يكون ما هو كائن عليه، فأي معنى يبقى للمساواة وللحق في المساواة؟ إن المساواة بين كائنين تفترض قَبْلياً كينونة الكائنين. فإذا كانت الكينونة نفسها منفية، فبين مَنْ ومَنْ ستكون المساواة؟" (طرابيشي/ جورج، أنثى ضدّ الأنوثة – دراسة في أدب نوال السعداوي على ضوء التحليل النفسي (بيروت: دار الطليعة، 1995)، ص 45). وتجدر الإشارة إلى أن أدوات المقايسة، كاللغة والاقتصاد والاجتماع والقانون و البيولوجيا، كلها أدوات أنتجتها المؤسسة الذكورية وكتبها فحل مركزي.
هذا تأويلنا لموقف الرجل الذي يبرر التحرش من منطلق الزيّ، فصحيح أنه لا ارتباط بين الزيّ والتحرش في الواقع، كما أوضحنا في الفقرة الأولى لكن ثمة ارتباط بينهما في دماغ المُبرر أو المتحرّش وهو نتيجة إبستيم معين أو قالب معرفي يرى المرأة عموما كموضوع هيمنة وتطويق.